فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق، وأيضًا لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي، والمراد من العابدين الذين أتوا بالعباد على وجهها، وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة وة سنتين ولكن كما قال العبد الصالح: {وَأَوْصَانِى بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا} [مريم: 31] وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم، {الحامدون} أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي عن غير واحد من السلف، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقًا، وقيل: هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء» وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال» {السائحون} أي الصائمون، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين.
وجاء عن عائشة «سياحة هذه الأمة الصيام»، وهو من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما أن السياحة تمنع منها في الأكثر، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة.
وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه، وقيل: هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن أبي أمامة أن رجلًا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى» والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه، وإنما لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية، وقد نهى عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل {الركعون الساجدون} أي في الصلوات المفروصات كما روي عن الحسن، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي، وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانهافكأنه قيل: المصلون {الآمرون بالمعروف} أي الإيمان {والناهون عَنِ المنكر} أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين، ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى، والعطف هنا على ما في المغنى إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان بخلاف بقية الصفات لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر، وحاصله على ما قيل: إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الايهام.
ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازمًا في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة يحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضى للعطف بخلاف ما قبلهما، وقيل: إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين، ويرد على ظاهره أن {الركعون الساجدون} في حكم خصلة واحدة أيضًا فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات، وإما العطف في قوله سبحانه: {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسباع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية، وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وقيل: إنه للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها، يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفًا نحو زيد وعمرو وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه، وقيل: هو عطف عليه، وقيل: هو عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعًا ولا يفيد نهيه منعا.
وقال بعض المحققين: إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه؛ والصفات الأول إلى قوله سبحانه: {والآمرون} صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني، ولما كان لابد من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به، وهذا هو الداعي لاعراب {التائبون العابدون الحامدون السائحون الركعون الساجدون الآمرون} خبره فكؤنه قيل: الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملًا في نفسه، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر، خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه ولعل الأمر فيه سهل الله تعالى أعلم بمراده {وَبَشّرِ المؤمنين} أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وان المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}
قلت: {التائبون}: خبر، أي: هم التائبون، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: التائبون في الجنة وإن لم يجاهدوا، لقوله تعالى: {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95]، أو خبره ما بعده، أي: التائبون عن الكفر، على الحقيقة، وهم الجامعون لهذه الخصال.
يقول الحق جل جلاله: في وصف البائعين أنفسهم وأموالهم: هم {التائبُون} عن الكفر والمعاصي والهفوات والغفلات، {العابدون} لله، مخلصين له الدين، {الحامدون} لله في السراء والضراء وعلى كل حال، {السائحون} أي: الصائمون، لقوله عليه الصلاة والسلام: «سِيَاحَةُ أُمتي الصوم» شبه بها من حيث إنه يعوق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملكوت والجبروت. أو السائحون للجهاد، أو لطلب العلم، أو لزيادة المشايخ والإخوان.
{الراكعون الساجدُون} في الصلاة، {الآمرون بالمعروف} أي: بكل ما هو معروف محمود، كالإيمان والطاعة، {والناهُون عن المنكر} أي: كل ما هو منكر في الشرع، كالكفر والمعاصي، {والحافظون لحدود الله} أي: لكل ما حده الشارع وعينه من الحقائق والشرائع.
قال البيضاوي: وعطف قوله: {والناهون عن المنكر} دون ما قبله؛ للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين، وعطف أيضًا قوله: {والحافظون لحدود الله}؛ للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل، وهذا مجملها، وقيل: للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع، من حيث إن السبعة هو العدد التام، والثامن ابتداء لعدد آخر معطوف عليه، ولذلك سمى واو الثمانية. اهـ بالمعنى.
{وبشر المؤمنين} الموصوفين بهذه الفضائل، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم؛ للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.
قاله البيضاوي.
الإشارة: قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية، فأول المقامات: التوبة، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة، التي هي عمل الشريعة، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق، ولاحت لها أنوار التحقيق، حمدت الله وشكرته؛ تقييدًا لتلك النعمة، ثم تسيح فكرتها في ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت، ثم ترد إلى مراسم الشريعة، إذ منتهى الكمال: التزام الشرائع، فتركع وتسجد البشرية، أدبًا في عالم الأشباح، ويركع القلب ويسجد في مسجد الحضرة في عالم الأرواح، فحينئذٍ تصلح للوعظ والتذكير، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهريْن؛ لأهل التشريع، والباطنيْن؛ لأهل التحقيق، فالأول يسمى وعظًا وتذكيرًا، والثاني يسمى تربية وترقية، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود، ووفى بالعهود، فيبشر حينئذٍ بالسعادة العظمى والمقام الأسنا.
قال القشيري: لقوله تعالى: {السائحون} أي: الصائمون، ولكن عن شهود غير الله، المُمْتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله، ويقال: السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الأعتبار؛ طلبًا للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغربها؛ بالتفكر في جوانبها ومناكبها، والاستبدال بتغيُّرها على مُنْشِئتها، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها، ويسيحون بأسراهم في الملكوت، فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ؛ بالتحقيق بشهود الحق.
انتهى.
وانظر الورتجبي؛ فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة، ثم التوبة الصادقة تستدعي العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية، فإذا تمت له نعمة للعبودية اقتضت حمد الله تعالى، فيحمده تعالى معترفًا بعجزه عن القيام بحمده؛ كما في حديث: «أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نَفسِك» ثم الحمد والذكر يقتضي حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حِمَى هلال جماله في سماء الإيقان. ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام: «صُومُوا لِرؤْيِتِهِ» ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله: «وأفطِرُوا لرُؤْيَتِهِ» فالسائحون طيارون بقلوبهم في أقطار الغيب، وذلك يقتضي الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة، فيركع شوقًا لجماله، وخضوعًا لجلاله، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات، فيسجد لكل الجهات؛ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]. وهذا السجود يقتضي الغربة، والغربة تقتضي المشاهدة، والمشاهدةُ تصير شاهدها متصفًا بصفاتها، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته صار متصفًا بوصف الربوبية، متمكنًا في العبودية، فيحكم بحكم الله، ويعدل بعدل الله، فيصفهم الله بهذه النعوت، قال: {الآمرون بالمعروف} الداعون الخلق إلى الحق، والناهون لهم عن متابعة الشهواتِ، والحافظون لحدود الله، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم، فلا يتجاوزون عن حد العبودية، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية؛ لأنهم في محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلى الله عليه وسلم، مع كماله، قال: «أنا العبد لا إله إلا الله». انتهى. اهـ.

.قال القاسمي:

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
{التَّائِبُونَ} أي: عن المعاصي، ورفعه على المدح أي: هم التائبون، كما دل عليه قراءة {التائبين} بالياء إلى قوله، و{الحافظين} نصبًا على المدح، أو جرًا صفة للمؤمنين.
وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، أي: التائبون من المعاصي حقيقة، الجامعون لهذه الخصال {الْعَابِدُونَ} أي: الذين عبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وحرصوا عليها {الْحَامِدُونَ} لله على نعمائه، أو على ما نابهم من السراء والضراء {السَّائِحُونَ} أي: الصائمون، أو الضاربون في الأرض تدبرًا واعتبارًا. وسننبه عليه {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} أي: المصلّون {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي: في تحليله وتحريمه {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الموصوفين بالنعوت المذكورة.
ووضع المؤمنين موضع ضميرهم، للتنبيه على أنّ ملاك الأمر هو الإيمان، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، أو للعلم به، لقوله في آية الأحزاب: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}.
تنبيهات:
الأول: ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين.
قال الزجاج: هو قول أهل التفسير واللغة جميعًا. ورواه الحاكم مرفوعًا، وكذلك ابن جرير.